شريط الأخبار

السبت، 7 يناير 2012

بافلوف ....... ونصيحة للشباب



  البحث العلمي امتداد مطرد، تجلّ لنشاط اجتماعي وإن تمركز تاريخيًا في أسماء لعلماء أفذاذ كل يمثل بؤرة لهذا النشاط ونجمًا لهذا الإنجاز.
         ويخطئ من يزعم أن الإنسانية مدينة لعقل دون آخر لتحقيق هذا الإنجاز سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي.
   إذ إن الإنسانية في ساحة العلم ومسيرته التطورية وحدة واحدة متكاملة وعناصرها أهل الجد والعزم العاكفين على البحث والتطوير دون من ينتظرون تساقط ثمار العلم عليهم رزقا رغدا وهم على الأرائك متكئون.
         العلم والتكنولوجيا إنجاز تراكمي ولكنه أيضا تطور نوعى مرحلي لأطر الفهم والمعرفة والنظرة إلى العالم ...انه اتصال وانفصال... اتصال من حيث تراكم وتوالي وترابط الإنجازات... وانفصال من حيث أطر الفكر والنظرة إلى العالم التي تمثل طفرة مرحلية في مسيرة التطور التي لا تهدأ ولا تتوقف وإن تغيرت مواقع الإنجاز على سطح الكوكب.
         ويمثل بافلوف تجسيدًا لهذا الفهم، انه امتداد لأساتذه سابقين عليه مثل شارل ريتشيه وستشينوف وبوتكين ولكنه الذروة التي بدأت على يديه نقلة أو طفرة جديدة لمرحلة جديدة في الفسيولوجيا وما لها من امتدادات وانعكاسات في علوم أخرى من بينها علم النفس.
         ان بافلوف احد الأسماء اللامعة في ساحة العلوم الطبيعية من بين العلماء الذين ناضلوا ضد الاتباعية التقليدية. عمد إلى تحصيل رؤية فسيولوجية شاملة للكيان كله في وحدته على عكس جهود سابقيه في النظرة التجزيئية . واستطاع بمنهجه الجديد تجاوز النقطة الحرجة التي تواجه العلوم الطبيعية في عصره وأوجه قصور المنهج والنظرية. ويمثل بافلوف بمنهجه توجهًا جديدًا في التجريب العلمي والنظرة الكلية التكاملية للكائن العضوي الحي في حالتي السواء والمرض وهو أول من أوضح أن النصفين الكرويين للدماغ لهما الهيمنة الكاملة على الظواهر الحيوية للكائن العضوي وتتحكمان في التوازن الذي يتحقق بين الوسط الخارجي والعمليات الباطنية.
         ونجد خيطًا واحدًا يجمع بين بحوثه ألا وهو فهم تأثير الجهاز العصبي على أكبر عدد من أنشطة الكائن الحي.
         وأرسى بافلوف قواعد جديدة لنظرية جديدة عن الأداء الوظيفي للدماغ ودينامية العمليات العصبية وطبيعتها الحركية المرنة وطرق انتشارها... فالكائن العضوي الحي كلٌ واحد متكامل ولقشرة الدماغٍ دور التوجيه والتآزر ويؤكد في ضوء أبحاثه أنه لا شيء جامدا أبديا غير قابل للتغير في الطبيعة أو في الكائن الحي وإن تقسيم الأفعال المنعكسة إلى فطرية وخاصيات خلقية وإرث فردى وأفعال منعكسة شرطية اي مكتسبة في حياة الفرد إنما هي جميعها مسائل نسبية لا مطلقة أو أبدية. وأفضى به هذا إلى بحث ظاهرة التكيف مع الوسط في دينامية مطردة .ورأى أن الروابط الشرطية تتأصل وتترسخ جيلاً بعد جيل مادامت الظروف المحيطة تدعمها لتصبح دائمة أي راسخة لزمن طويل.
         وتمثل إنجازات بافلوف مقدمة أو تمهيدًا علميًا لنظريات وحدة التطور المشترك بين النمطين الجيني والفيني (الظاهري) Genotype - phenotype Co-evolution. إذ إنه أوضح أن مسيرة البشر والحيوان لا تحددها فقط الخصائص الفطرية للجهاز العصبي وإنما تحددها أيضا المؤثرات التي أثرت وتؤثر باطراد في الكائن الحي طوال وجوده.
         وأثرت بحوث بافلوف تأثيرًا عميقًا في العلم والثقافة أيضا حتى إن البعض يرى أن من العدل أن نقسم تاريخ الفسيولوجيا إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل بافلوف ومرحلة جديدة أو طور جديد بدأ على يد بافلوف. ويرى هؤلاء أن هذا التقسيم ينطبق أيضا على علم النفس.
         ورفض بافلوف،على الرغم من ذلك وصفه بعالم نفس قانعًا بوصفه عالم فسيولوجيا بحتة. ونراه في عام 1922م يقول أمام المؤتمر الدولي التاسع لعلم النفس في جامعة ييل: «لست عالم نفس ولست على يقين إذا ما كانت إلهاماتي ستحظى بالقبول لدى علماء النفس ويجدون فيها ما يهمهم. إن إسهاماتي دراسات فسيولوجية بحتة – فسيولوجيا وظائف الجهاز العصبي الراقي– وليست علم نفس . ترى هل بوسعكم التفضل بتوضيح الموقف لي؟».
         ولكن الغرب تابع كل أعماله في الفسيولوجيا وتطبيقاتها في علم النفس ابتداء من عام 1927م وترجم كل أعماله بعد أن كانوا على امتداد أربعة عقود لا يعرفون عنه الا شذرات متفرقات، وتجلى تأثيره واضحًا في الولايات المتحدة خاصة في المدرسة السلوكية لعلم النفس عند واطسون وثورنديك.
         ولكن هذا لا ينفى الاختلاف الموضوعي والجوهري في التطبيق بين نظرة بافلوف التطورية الارتقائية للكائن الحي والنظرة الميكانيكية للمدرسة السلوكية. جدير بالذكر أن تأثير بافلوف بدا واضحًا أيضًا داخل القارة الأوربية ونشأ تلامذة له ومن هناك امتد تأثيره إلى مصر. وكان من ابرز تلاميذه هنرى فالون في فرنسا صاحب النظرية التكاملية والذي قال ان بافلوف فتح أبوب الفسيولوجيا للدخول إلى ميدان السيكولوجيا. وهذا هو العالم الذي تتلمذ على يديه أستاذنا العالم الكبير يوسف مراد أستاذ علم النفس سابقا في جامعة القاهرة – فؤاد الأول. ويعتبر يوسف مراد احد اثنين هما رائدا مدرسة علم النفس في مصر: يوسف مراد ممثلا للمدرسة التكاملية ومصطفى زيور ممثلا للمدرسة الفرويدية. وتخرج على أيديهما علماء كبار وأسس يوسف مراد اقتداء بأستاذه هنرى فالون تلميذ بافلوف المدرسة التكاملية في علم النفس في مصر والعالم العربي. وطبق منهجًا جديدًا يؤكد الرابطة الموضوعية التطورية للكائن الحي والإنسان والحيوان والوسط المحيط. وربط بين الجهاز العصبي في تطوره والسلوك وتفسير السلوك بالاشارة إلى عمليات المخ ذات الصلة الوثيقة إضافة إلى الوسط وتغيراته.
         وحري بنا أن نوضح هنا أن بافلوف الذي عاش قرابة عقدين في ظل النظام السوفييتي تميز بأنه عالم ومثقف مستنير بمعنى انه لم تستوعبه أوتحتويه السلطة السوفييتية على الرغم من رعايتها له وأولت جهوده اهتمامًا واعتبارًا كبيرين. لذلك نراه مثلا يوجه رسالة إلى مولوتوف انتقد فيها السياسة السوفييتية للاضطهاد العشوائي الجمعي دون تحقيق أو مساءلة قانونية إنما لمجرد شكوك أو وشاية. وطالب ببحث حالات كل منهم خاصة أن هناك من يعرفهم شخصيا ويعرف ولاءهم الصادق للوطن وللنظام. رفض بافلوف صراحة رأي القادة السياسيين في أن إسهاماته تدعم المذهب المادي وقال إن إسهاماته علم ولا علاقة لها بالمادية.... نحن بسبيلنا لأن نرى العقل والنفس والمادة جميعها شيئا واحدا ولا ضرورة للاختيار بينها. انه رافض وبقوة للتوظيف الأيديولوجي للعلم ورافض بقوة أي سلطة على العلم غير العلم ذاته منهجًا ونظرية وجهدًا مشبوبًا بحب العلم والتفاني له ولذلك اعتاد أن يصف نفسه بأنه رجل علم أولاً وأخيرًا.
         ولعل من الملائم تمامًا أن نختتم هذه المقدمة بنصيحة بافلوف التي أسداها لشباب روسيا من علماء المستقبل والتي نراها جديرة بأن يهتدي بها الشباب الذين نذروا أنفسهم للعلم، يقول بافلوف في رسالته لشباب العلماء:
«أتمنى لشباب بلدي ما يلي:
         أولاً وقبل كل شيء – الاتساق ....إنني لا أستطيع التحدث دون انفعال عاطفي بهذا الشرط الأهم للجهد العلمي المثمر ..حري بكم منذ البداية الأولى للعمل أن تتمرسوا على الالتزام الصارم بالأسلوب المنهجي المنظم لتجميع المعارف. تعلموا ألف باء العلم قبل أي محاولة للصعود إلى ذرى العلم الشاهقة .ولا تحاولوا الوصول إلى الخطوة التالية قبل استيعاب وامتلاك ناصية الخطوة الأولى.
         ولا تملأوا ثغرات معرفتكم بالفروض والتخمينات النزقة، إذ مهما كانت هذه الفقاعات آسرة للانتباه والإعجاب الظاهري إلا أنها سوف تتفجر حتماً، ولا تخلف لك سوى الارتباك والتشوش...
         ادرسوا وقارنوا واجمعوا الوقائع. إن جناح الطائر مهما كان جميلاً جذابًا لم يقوَ على التحليق به دون دعم من الهواء. والحقائق هي الهواء الذي يدعم العالم ومن دونها لن يحلق عاليًا وتغدو نظرياته جهدا ضائعاً. ولا تقفوا عند ظاهر الوقائع عند التجريب والملاحظة لأن العالم ليس وعاء حفظ «أرشيف» وإنما حاولوا النفاذ لكشف سر نشأتها، ولا تكفوا عن البحث عن قوانينها.
         ثانيًا: أدعوكم إلى التحلي بالتواضع. لا يذهب بك الظن أنك أحطت بكل شيء علما . ومهما بلغ قدرك من رفعة المكانة تحلَّ دائما بشجاعة التحدث إلى نفسك قائلا «لا أزال جاهلاً». لا تدع الزهو يأسرك , فالزهو يورثك العناد والجمود حيث ينبغي الموازنة والمقارنة بين الحقائق ومن ثم تجد نفسك وحيدًا أعزل فاقد الحس لمعنى الموضوعية.
         واحرص على المناخ الجمعي الذي يؤكد أننا جميعا نعمل معا ومشدودون نحو هدف واحد مشترك وان كلاً منا يبذل أقصى الجهد وصولاً إلى هذا الهدف الذي لا تمايز فيه بين ما هو لي وما هو لك بل حصاد مشترك لجهد مشترك.
         ثالثا: الحب والعاطفة. لنتذكر دائما أن العلم يقتضي منك كل حياتك حتى وإن كانت لك حياتان فإنهما لا تكفيان. العلم يستلزم من المرء الجهد والحب لدرجة العشق والتفاني من أجله».
         بهذا الجهد الدؤوب الذي لا يعرف الكلل، وبهذه الروح، وهذا الحب وتلك العاطفة المشبوبة، وبهذا التواضع والروح الجماعية حقق بافلوف إنجازاته الباهرة. وأنشأ مدرسة فكان هو ومدرسته كما قال عنه اتش. جي. ويلز: نجماً ساطعاً غمر نوره سماء العالم كله، وأضاء آفاقًا واسعة لم نكتشفها بعد ... وهكذا تنهض الأمم.
العربي العلمي

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Design Blog, Make Online Money